Wednesday 28 February 2018

الشجرة الباكية





حرصت أن أزرع شجرتين في الحديقة الصغيرة التي لا تبدأ الاصطباحة ولا تكتمل إلا بعد أن أصبّح على نباتاتها بصوت مسموع، ثم أردد كلمات استقرت في وجداني منذ مدى زمني طويل، لأنها وحدها تجلب لي الطمأنينة بعد أن جربت العديد من العبارات، وبعدها أنده المدد للعدرا أم النور وأصلي وأسلم على النبي وآله! وإلى الآن أجدد المحاولة لزرع شجرة ثالثة ليتحقق بعض إشباع للحنين لطفولة وصبا وشباب مبكر.. مراحل متصلة عشتها مرتبطًا بجميزة سيدي منصور وجميزة ساقيتنا الكبيرة، وبصفصافة عقر القنطرة، الحوض الذي يقع فيها غيطنا، وبدقن الباشا أي اللبخ التي كانت تفوح رائحة زهرها الأصفر الناعم في نهاية حارتنا أمام دار آل عكاز!

وكنت أظن أن الصفصاف نبات مصري ومتوسطي فقط، إلى أن سافرت إلى الشمال ووجدته منتشرًا في العروض العليا الشمالية، شمال الولايات المتحدة، وفي كندا حيث الزمهرير الذي يهبط بالحرارة إلى عشرين وثلاثين تحت الصفر!

وللصفصاف عندنا في مصر نوعان، أحدهما أغصانه كثيفة ولا تتدلى، والثاني كثيفة أيضًا لكنها تتدلى، إلى أن تصل للسطح المجاور لمنبت الشجرة، والغالب أن يكون السطح ماء، ولذلك نسميها صفصافة شعر البنت! أما هناك في الشمال فيسمونها الشجرة الباكية.. وبالفعل فهي أقرب إلى مخلوق منكفئ الرأس متدلى الشعر فوق كل جسده، وكأنه يبكي ويصرخ!

وعندما بحثت عن "دقن الباشا"، وجدت من يُحضر لي شجرة نامية عالية أخرجت زهرها بعد شهور قليلة من غرسها، ولا أعرف كيف سأتصرف إذا أخذت اللبخ مداها في الضخامة والارتفاع، لأنها قد تتجاوز الثلاثين مترًا في الارتفاع، وقد تظلل دائرة يصل قطرها لمائة متر، فيما أنا حشرتها في مساحة ضيقة ملاصقة لبلكونة أرضية أو شكمة محدودة المساحة!

وحتى الآن لم أجد جميزة يافعة أستأنس بها، فربما تعيد أنسي بجميزة سيدي منصور صاحب الضريح غير معلوم تاريخ الإنشاء ولا تاريخ الدفن، ولجميزته سمة خاصة غير متكررة.. وهي سمة أسطورية ولكنها أسطورة واقعية محققة.. حيث التف فرع منها ليحيط بالثلث الأعلى من قبة الضريح، وهذا الفرع لا تسقط أوراقه في الخريف شأن بقية الجميز، بما فيها بقية أفرع تلك الشجرة، وكلما حاول أحد تختين ثمار ذلك الفرع لتكون ثمارًا صالحة للأكل لم يتمكن، إما بسقوطه من حالق لتنكسر ذراعه أو ساقه أو بسقوط الثمرة الصغيرة بمجرد ملامسة شفرة التختين لها.. ومعلوم أن ثمرة الجميز لا بد لكي تنضج ويعلو سكرها أن تجرح لينزل منها سائل أبيض لزج، وليتحول لون جانبي الجرح أو الفتحة إلى الأسود، ويصبح سكرها من الجلوكوز!

ولم تكن علاقتي بالجميز أنسًا كلها، لأن الرعب الحقيقي الذي يرتج منه الجسد ويتفصد عرقًا ويجف اللعاب ويتدفق الأدرينالين لتتضاعف قوة الساقين فيكون القفز الطويل بديلًا عن المشي السريع المهرول، والجري؛ ارتبط بالجميزة التي كانت تقبع داكنة اللون تزيد من سواد الليل سوادًا عند المنحنى الشديد الواقع في الثلث الأول من الطريق النازل قادمًا من الجسر الشرقي للترعة الكبيرة- ترعة الباجورية- القادمة من بر المنوفية مارة ببر الغربية، وبعدها بر كفر الشيخ!

ثم يتضاعف الرعب إذا ما ظهرت للعين المحدقة في ظلام الليل شواشي جميزة أبو العبد، حيث المقابر أو الطرب- الترب- المقامة على ربوة مرتفعة عن الطريق وتنبت فيها الحلفاء خشنة متطاولة قد تخللتها جحور للثعالب أو النمس، وفتحات أخرى ضيقة يرجح أنها مكامن للثعابين! وكانت جميزة أبو العبد وافرة الثمر الذي لا يجرؤ أحد على تختينه، فيبقى إلى أن يكبر حجمه ويصير "باطًا" يملأه من داخله هاموش أسود هو نتاج بيض الذباب المتكاثف في المقابر، وفي الصيف يفترش "الباط" الطريق، وحتى الحمير والدواب تعف عن التقاطه.. إذ كيف يأكله بشر أو يلتقطه حيوان وهو مليان من دم موتانا ورفاتهم! هكذا كنا وكان أهلنا وظللنا حتى الآن، نحرِّم جميز أو توت المقابر! وربما كان مشهد جذور تلك الأشجار ومعها جذور نبات الحلفاء- وقد اخترقت الأرض من تحت جدر المقابر ودخلت إلى جوف المقبرة وبعضها يلتف حول ما في الأكفان- هو المشهد الذي جعل التحريم مؤكدًا، وهنا أتذكر مشهدًا آخر رأيته في شمال الولايات المتحدة، حيث لا يدفن أهل البلاد الأصليون الذين درجت تسميتهم بالهنود الحمر موتاهم في مقابر مغلقة، إنما يسجونهم في قمم الجبال، لتأتي الطيور الجارحة لتأكل الرفات وتتكفل بقية الكائنات من خنافس وذباب ومخلوقات أخرى دقيقة بالباقي من الجثمان.. وقد تعلموا هذا الأمر من فلسفة الطبيعة، التي تؤكد اتصال دورة الحياة لأنهم يشاهدون أسماك السالمون وهي تأتي من المحيط عابرة آلاف الأميال لتضع بيوضها في الأنهار الصغيرة التي ولدت فيها، وبعد وضع البيض بالمليارات تموت الأمهات المنهكة وتقوم الذكور بالتلقيح وتمضي، وبعدها تأتي الطيور الجارحة لتأخذ الأسماك النافقة لتأكل منها فوق قمم الأشجار ويتساقط منها أجزاء من ذلك الطعام فيصل للتربة ويتحلل ويتحول لغذاء للشجر!

هنا أسألكم العفو والسماح، إذ بدأت من حديقة داري الصغيرة وتشعبت حتى وصلت لجبال الروكي وسييرا نيفادا.. وربما أحاول أن أواصل حكاية الصفصاف واللبخ والجميز في مقال مقبل!
                            
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 28 فبراير 2018.

Thursday 22 February 2018

المعارضة بلا مشاعر ولا خيال





في مكنونات الوجدان الشعبي حكايات تم حبكها منذ مئات السنين، ورغم ذلك القدم ومعه ما استجد من متغيرات على كافة الجوانب، إلا أن تلك الحكايات صالحة للاستدعاء كل لحظة، ومنها حكايات عن عين السخط التي تبدي المساوئ مهما كان الأمر جميلًا ومبهجًا.. وحكايات عن الناقمين على أي مكسب يحوزه غيرهم!

يقولون في الحكي الشعبي إن عالمًا جليلًا تقيًا ورعًا فضّل البقاء في داره عاكفًا على البحث والتأليف، وكان الكافة من أهل العقل يعرفون فضله، إلا أن امرأته دأبت على انتقاده ومعايرته بأنه لا صيت له ولا شهرة مثل الذين تراهم هي في المساجد وقد تحلق الناس من حولهم يستمعون لهم ويهللون لكلامهم، ولما اشتد انتقادها اضطر مولانا لأن يرتب دعوة لكبار القوم من علماء وأمراء ووزراء إلى منزله، وعمد أن يفتح فتحة في جدار القاعة الملاصق لبقية الدار، وطلب إلى زوجته أن تنظر من تلك الفتحة، وكان أن جاء المدعوون وكل من دخل يذهب إلى مولانا في مقعده وينحني مقبلًا يده ويجلس، إلى أن امتلأ المكان وبدأ الشيخ في درسه وأسهب في الشرح والجميع منصت بإتقان إلى أن انتهى ونهضوا لينتظمهم صف طويل باتجاهه وكل من وصل إليه قبّل يده ورأسه وانصرف! ولما انفض الجميع ودخل مولانا إلى داره نظر إلى الزوجة وسألها: هيه.. ما رأيك فيما شاهدتِ؟! وأجابت من فورها: يا ميت حسرة وندامة.. كل الناس المحترمين جلسوا ساكتين وأنت الوحيد المختل الذي لم يتوقف عن الكلام!

والحكاية الثانية في تراثنا البديع تُشبه الأولى مع فرق واضح، وهو أن عالمًا جليلًا بلغ مرتبة الولاية والقطبية الصوفية، وكان يؤثر الخلوة للتسبيح والتأمل، والتأليف، وكانت الزوجة تخرج لقضاء احتياجات الدار، وكلما خرجت ودخلت انهالت عليه تقريعًا وانتقادًا على عزلته وعدم فائدته، وذات يوم عادت من السوق واقتحمت خلوته وبدأ الموشح: عامل لي عالم وولي وأنت لا تقدم ولا تؤخر.. لقد تمنيت أن تكون معي في السوق لتشاهد الخلق وهي تنظر للسماء وتكبر وتهلل للولي الذي كان طائرًا في الجو.. وأنا من فرحتي به وحسرتي عليك فككت الكردان الذهبي الذي كان في عنقي وألقيته إليه فالتقطه ودعا لي! وابتسم مولانا ومد يده في جيبه وأخرج شيئًا منه وسألها: أهذا هو كردانك الذهبي؟! فشهقت المرأة وارتج بدنها وصاحت قائلة: هل كنت أنت الطائر في سماء السوق؟ وأجابها: نعم والحمد لله! ومن فورها عوجت عنقها ولسانها وشوحت بيديها وقالت: "أتاريك.. كنت طاير ودماغك في ناحية ورجليك في ناحية تانية.. طاير معووج"!

وتأتي الحكاية الثالثة، وهي من عالم الحيوان، إذ تعودت مجموعة من الفئران التسلل إلى مخزن أحد البقالين. ويقف الواحد منهم على حافة زنبيل العسل ويمد ذيله فيه ثم يلحس ما علق بالذيل من شهد، وذات مرة دخل البقال وكان أحد الفئران مستغرقًا في السطو وطارده البقال فأفلت الفأر بجسمه ولحق البقال أن يوصد الباب على ذيله فقطعه تمامًا! وذات يوم كان فأر آخر يمارس السطو واللحس، ودخل صاحبنا مقطوع الذيل ليقف مشاهدًا ومتحسرًا لكنه- وككل عاجز- وجه كلامه للآخر منتقدًا ومعبرًا عن قرفه واشمئزازه: "إخيه عليك توسخ زنبيل الرجل.. وتلحس ذيلك دون أن تغسله.. وسوف تجتمع عليك حشرات النمل والذباب وغيرها!" ورد الفأر السليم من فوره وبدون تردد "قصر ذيل يا أزعر"!

وهكذا هي حال الأشاوس الذين يدعون أنهم المعارضون في سوق السياسة عندنا.. فهم لا يعجبهم شيء.. ولا يرضون بأي إنجاز ولا يقتنعون بأي منطق سليم يحلل ما يتم في الاقتصاد والمجتمع وفي جبهات القتال.. وهم متكررون في كل العصور.. ومن حظي أن عرفت وتعاملت مع معظمهم بل إن فيهم من تجاوزت العلاقة معه حدود أنه "معرفة"، إلى مستوى الصداقة، وكلانا يعرف خبايا الآخر، ويدرك حجم وفاعلية إمكاناته السياسية، والثقافية، ومع ذلك فقد رزقهم الله سبحانه وتعالى جهازًا عصبيًا عصيًا على الاستجابة لكثير من المؤثرات، ومنها الحياء والخجل!

وقد لفت نظري تكرار المشاهد في مسيرتنا التاريخية، ومثلما لاحظت الخيط الممتد من المشير عامر إلى الفريق عنان وكتبت عنه الأسبوع الفائت، ألاحظ أن هناك من استنكر بناء السد العالي وتأميم القناة، في منتصف الخمسينيات، وقالوا إن السد يعد جريمة في حق الطبيعة وحق الأرض الزراعية، والمنشآت الحيوية كالكباري على مجرى النهر.. وعلى علاقة الدلتا بالبحر، وبعضهم كان يتهدج صوته ويكاد يبكي وهو يتذكر بحسرة صواني السردين التي كان يلتهمها كلها أثناء موسم الصيف بعد أن تخرج من الفرن ناضجة، ينز منها الدسم وفوقها أنصاص الليمون!

وكانوا يقولون إن الدول الاستعمارية الغربية كانت ستترك القناة وحدها عام 1968، فلماذا جر الشكل والحرب والدمار؟!

ومازال البعض ونحن الآن اقتربنا من نهاية الخُمس الأول من القرن الحادي والعشرين، يقدم نفس الأطروحات حول السد وتأميم القناة وحرب 1956، بل زاد عليهم فصيل جديد يتحدث بالمنطق نفسه عن حفر القناة الجديدة، وعن التسليح بالطائرات بعيدة المدى وحاملات الطائرات، وسبحان الله العظيم الخالق البارئ المصور.. تراهم وكأنهم جميعًا من سلالة خلقية واحدة، لأنهم بلا مشاعر وبلا عواطف وبلا خيال.. ولأن المساحة قاربت على النفاد فللحديث صلة.
                                 
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 22 فبراير 2018.

Wednesday 21 February 2018

مليار وثمانمائة مليون كلمة!





خمسة آلاف عدد صدرت من "المصري اليوم"، يعني حوالي تسعمائة ألف صفحة، إذا قلنا إن عدد صفحات العدد 18 صفحة، يعني مليار وثمانمائة مليون كلمة، لو كان متوسط عدد الكلمات في الصفحة ألفي كلمة فقط! يعني مكلمة هائلة بحساب الأعداد والصفحات والكلمات، مضاف إليها الصور الصحفية والرسوم الكاريكاتيرية والأشكال والأرقام التوضيحية.. ولو كنت أعرف عدد محرري المصري وعدد موظفيها وعمالها وموزعيها لحاولت أن أرصد أيضا عدد ساعات العمل التي أنتجت هذه المكلمة الهائلة، لندرك أنه حتى لو استعملنا الحسابات المجردة وبالقطاعي فإن جهدًا إنسانيا جبارًا بُذل، ناهيك عن أننا لم نحسب ما أنفق من مال وما استهلك من أدوات إنتاج كالورق والأحبار والأجهزة المختلفة، وناهيك أيضًا عن غياب القدرة على حساب الجهد العصبي والذهني الذي بُذل في العملية كلها ومن مختلف الأطراف، وهو جهد لا يمكن ترجمته إلى أرقام، لأن الكاتب مثلًا- وهو أحد عناصر العملية- قد يكتب مقالا من سبعمائة كلمة في ساعة، ولكن التفكير واعتصار الذهن لاستدعاء الكلمات المناسبة من مخزون الكاتب المعرفي والثقافي الذي تم تكوينه تراكميًا عبر سنين طويلة، أمور لا يمكن تحويلها إلى رقم!

هذا عن الشكل، وهو مهم، أما المضمون ففي ظني أن "المصري اليوم" جاءت إضافة مهمة للحياة العامة في مصر، وإن تفاوت ثقل هذه الأهمية في جوانب حياتنا الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية، حيث يستحيل أن يصدق الزعم بحياد مطبوعة صحفية، وإن جاز الزعم بأنها تحاول أن تبدو متوازنة بحيث لا يبدو ميلها لمصالح بعينها واتجاه بذاته وقوعًا فجًا يضاعف نفور من ليسوا محسوبين على تلك المصالح وذلك الاتجاه.

ثم إن "المصري اليوم"، ورغم غياب تصنيف سياسي اجتماعي دقيق لملامح المجتمع المصري، قد أحسبها على أنها تعبير عن يمين الوسط، تظهر فيها أحيانا محاولة وجود "لطشة" معبرة عن يسار الوسط، وقد تنجح في ذلك أحيانًا لتبدو وبحق منبرًا تعدديًا، وقد تخفق أحيانًا أخرى، ليس عن عمد ولكن لأن تركيبتها- أو قل جيناتها، التي ولدت بها، ومع ما هو معلوم عن أصل التمويل وميول المصممين الذين صمموها واتجاه مؤسسها- تسمح بالتعدد الواضح داخل يمين الوسط، لتجد يمينًا سياسيًا واقتصاديًا قحًا متطاولًا وبضراوة على الاتجاهات الأخرى، وتجد وسطًا متوازنًا فيه تلمُّس لما يمكن أن نسميه الجامعة الوطنية متعددة الأصول والفروع! وهنا قد نتمنى أن تنجح "المصري اليوم" في إحداث طفرة جينية تجعلها نموذجًا واضحًا لتلك الجامعة الوطنية!

وقبل أن أستطرد باتجاه ما أعتقد أنه كلام مناسب حول مستقبل الصحافة عمومًا، بمناسبة احتفائنا بالخمسة آلاف عدد "مصري"، فإن ثمة أمنيات فرعية جزئية هامشية قد تبدو ساذجة، أراها واردة في مقام ما نتكلم عنه.. فمثلا أتمنى قليلًا من التواضع لدى من شاءت أقدارهم أن يكونوا رؤساء تحرير لصحف مصرية، لأن كثيرين يعتبرون أن مجرد الوجود في المنصب يستلزم صورة لطلعته البهية تعلو ترويسة الجريدة وتعلو مانشيتاتها وتعلو صورة الخبر الرئيسي، حتى وإن كان لرئيس الجمهورية! بل إن بعض رؤساء التحرير في صحف قومية اخترعوا بنطًا خاصًا لأسمائهم التي قد تتكرر في الصفحة الواحدة عدة مرات وفي العدد نفسه مرات كثيرة، ناهيك عن فرد المساحات والتخطيط بخطوط سوداء أو حمراء تحت بعض عبارات مقالاتهم وهلم جرا.. ومثلا أيضا وجود شللية ضمنية- وإن كانت غير معلنة في معظم الصحف القومية والخاصة- ليظهر أثرها في شكليات بعينها، كوضع صور وأسماء الكتاب في إشارات الصفحة الأولى، أو فرد مساحات لكتاب بعينهم قد تتجاوز المساحة المتعارف عليها والتي يتم إلزام البقية بها، عدا عن استكتاب من بعثوا من مرقدهم السياسي دونما أي مسوغ إلا الشفقة أو الغرض الذي في نفس يعقوب.. وحيث يعقوب هنا هو صاحب القرار! وعندئذ يتمنى المرء أن يأتي وقت تخلو فيه "المصري" من تلك الملاحظات الساذجة!

والآن لنذهب إلى ما أظنه من صميم الموضوع، ألا وهو أن الصحافة بوجه عام تخضع لقانون الأواني المستطرقة السائد في المجتمع، إذ تكون الصحافة مع السياسة مع الثقافة مع الحراك الاجتماعي في مستوى واحد، انحدارًا أو صعودًا.

وأعتقد أن الصحافة هي أكثر الأواني حساسية واستجابة لبقية الأوضاع، لأن السؤال هو: هل للكلمة دور حاسم أو كبير أو مؤثر أو يتراوح تأثيره في مجتمع تشيع فيه الأمية بمختلف أنواعها ودرجاتها، بل إنها أمية تشيع في الوسط الصحفي نفسه، حيث لا يخلو وسطنا الصحفي من أمية هجائية وفي النحو والبلاغة، وأميات سياسية وثقافية ودينية بل وأخلاقية، وقد تيقنت من ذلك عبر أربعين عامًا أو يزيد قضيتها في الصحافة، وشاء قدري أن أشرف على صفحات الرأي ومركز الدراسات وعمل المراسلين وصفحة الدين يوم الجمعة في صحيفة كبيرة، وأن أستمر في المهمة حتى الآن، وإن بصورة مختلفة!

وعندئذ أيضًا نتمنى أن تبدأ صحافتنا بعلاج نفسها من وباء الأمية المركبة متعددة الوجوه، لتنطلق في المساهمة في علاج مجتمعها من تلك الأمية، وليصبح عندنا وبحق حالة نهوض شامل تكون الصحافة هي رأس الرمح حامل الشعلة مشعة الحرارة والضوء!
                                    
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 21 فبراير 2018.

Thursday 15 February 2018

الخيط بين عامر.. وعنان




ترددت كثيرًا في كتابة هذه السطور لأنني لا أميل إلى إعادة إنتاج ما كُتب عشرات المرات حول وقائع معينة في تاريخ مصر المعاصر، ولأنني ضد أن تُفتح الجروح التي نسعى لاندمالها بعد أن كادت تمزق نسيجنا الوطني، غير أن ذلك إذا أعاقنا عن استيعاب دروس التاريخ، جاز أن نتحدث في الأمر الذي ترددنا فيه، فإذا أضفنا أن ثمة ظروفًا طرأت على مسيرتنا في الأسابيع القليلة الفائتة تدفعنا دفعًا للتذكير بالدرس، فإن الأمر يتحول عندي من أنه جائز إلى أنه واجب.

وبداية فإن الاحترام كله لقرار سلطات التحقيق بحظر النشر في قضية سامي عنان، الذي أعلن في وقت سابق عزمه على الترشح، وما سأتناوله هنا لا يتصل من قريب أو من بعيد بالقضية ووقائعها وملابساتها، وكل ما يتصل بها، وإنما هو متصل بدرس تاريخي مهم وخطير أعاد تصرف عنان تذكيرنا به وحتم علينا قراءته مجددًا.

في سنة 1962 وبعد انفصال سوريا ومع كل المؤشرات والوقائع التي ربطت بين المشير عبد الحكيم عامر وبين ما حدث، خاصة ما كان يدور في مكتبه بدمشق، حاول جمال عبد الناصر أن يُصحح الأوضاع داخل الدولة ككل، وضمنها القوات المسلحة، واقترح مجلسًا رئاسيًا له اختصاصات واضحة وواسعة، ولكن عامر رفض واعتبر المساس بالوضع القائم آنذاك في علاقته هو بالجيش مرفوض، وفي الأول من ديسمبر 1962 كتب استقالة مسهبة لم يتطرق فيها إلى حقيقة ما ورائها من أسباب ذاتية محضة، وإنما أسهب في الكلام عن الديمقراطية السياسية وعن الاستبداد وغمز ولمز رئيس الجمهورية آنذاك وهو جمال عبد الناصر.. وأمام حرص الدولة ورئيسها على وحدة الصف وعلى سلامة بنيان وتماسك القوات المسلحة عاد المشير عامر، وتعطلت محاولات الإصلاح، واستمر الحال وتفاقم حتى كانت هزيمة 1967 والأحداث التي وصلت إلى أن يتجه عامر للضغط على عبد الناصر عبر مجموعة تصرفات كان منها استقطاب مجموعة من الضباط، والاستعانة بمدنيين مسلحين استدعوا من بلدته في محافظة المنيا، وكان لابد من الحسم الصارم، وتمت تصفية التمرد ووأد الفتنة بأقل الخسائر.. وفي تلك الفترة أعاد عامر توزيع استقالته القديمة المسهبة في الكلام عن الديمقراطية وأوضاع البلاد، وكان من وراء توزيعها هذه المرة السيدة زوجته المشهورة باسم برلنتي عبد الحميد!

وتشاء الصدف أنني بعد ذلك بسنين طويلة كنت في لندن، والتقيت أحد كبار الكتاب والصحفيين، وهو المرحوم أحمد عباس صالح، الذي تولى لفترة طويلة رئاسة تحرير مجلة "الكاتب"، التي كانت منبرًا للفكر القومي، وكان لصالح ميول سياسية بعثية، بل تردد أنه كان لفترة ما في الخمسينيات منضمًا لحزب "البعث"، وقريبًا جدًا من قيادة الحزب في العراق، وأثناء وجوده في لندن أيام حكم السادات تم تعيينه مستشارًا للسفارة العراقية بلندن، وتمتع بوضع وظيفي واقتصادي متميز.. وقد التقيته وفتحنا حديث الذكريات، وفوجئت به يبتسم ويؤكد أنه هو الذي كتب استقالة المشير عامر في 1962 وكان همزة الوصل بينهما ضابط اسمه محمد أبو نار، وأنه كبعثي لم يكن يحب عبد الناصر، ومن ثم ركز في الاستقالة على حكاية الديمقراطية والأوضاع السياسية وبقية الموال إياه، الذي هو أقرب لأسطوانة مشروخة تُصدر ضجيجها عند تشغيلها بين زمن وآخر!

ولا أبالغ إذا قلت إنني فور استماعي للنص الذي قرأه ذلك المعتزم للترشح في الرياسة تذكرت حكاية نص استقالة عامر، وتذكرت عباس صالح، وتوقفت بتفكيري طويلًا أمام ظاهرة انتهاز بعض المعارضين من أهل السياسة المدنيين الفرصة لعلاقة مع أحد المحسوبين على القوات المسلحة، وتحويله إلى بوق يردد ما يريدون دون أن يفطن الطرفان إلى خطورة هذا السلوك، وخطورة بث تلك المضامين، التي قد تبدو حقًا عند من لا يعرف خلفيات الأمور ولا أهدافها، ولكنها نموذج رهيب للباطل!

لقد فاحت رائحة بصمات الاثنين اللذين قال عنان إنه اختارهما ليعاوناه في نص بيانه، وهو طبق الأصل مما فعله أحمد عباس صالح، عندما استتر وراء عامر وجعل موقفه كبعثي مناهض لناصر ونظامه يبدو وكأنه موقف عامر، وكانت شبكة التمويه هي الديمقراطية والحرية والأوضاع الاقتصادية وخلافه!

نعم.. إن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن أحداثه قد تتشابه.. والعبرة بتعلم واستيعاب الدروس وعدم السماح بتكرار الخطايا والأخطاء.
                        

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 15 فبراير 2018.

Wednesday 14 February 2018

جيش محارب ومجتمع مقاوم




تأتي هذه السطور متأخرة عن توقيت موضوعها، بحكم المدى الزمني الفاصل بين بداية عمليات "سيناء 2018" التي تقوم بها القوات المسلحة والشرطة، وبين الموعد الأسبوعي لهذا المقال، ولو أن الأمر بيدي لما ترددت أن أكتب عدة مرات في الأيام القليلة السابقة.. ولو كان الأمر باستطاعتي أيضا لسعيت لانعقاد مستمر لمجموعة من ورش العمل الصحفي والفكري، كي تمضي في سبيل متزامن يقدم مضمونا مختلفا عن المضامين التي أظنها أضحت مستهلكة وأقرب ما تكون إلى الأقراص الفوارة التي يتصاعد فورانها وتتكاثر فقاقيعها مجرد أن تلامس الماء، وما هي إلا دقائق أو ثوان ويزول الفوران وتختفي الفقاقيع، بل وربما يزول أيضا تأثير المادة الفعالة المذابة.. وهنا أعني تلك الأساليب الصحفية والإعلامية التي حولت ما يجري في سيناء والدلتا والصعيد والصحراء الغربية إلى مهرجان خطابي احتفالي، تتكرر فيه العبارات الرنانة نفسها، وبالطبع فليس لي أن أصادر الآخرين ولا أن ألومهم، إذ ربما يكون هذا هو أقصى ما في طاقتهم حيث لا يكلف الله نفسا إلا وسعها!

المضمون الذي أنشده ليس اختراعا ولا اكتشافا ولكنه قد يدخل في نطاق "الصحيح المهجور"، لأنه سبق وأن ساد وطبق في فترات سابقة من تاريخ مصر إلى أن طغى عليه "الخطأ الشائع" وآل الحال إلى المنوال القائم الآن ومنذ زمن شبه طويل.. وهنا تكون الدعوة لإنتاج فكري وثقافي وسياسي يدفع لممارسات عملية ليتكافأ ذلك الإنتاج وتلك الممارسات مع ما تقوم به القوات المسلحة والشرطة على امتداد جبهات الفعل المقاتل شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وعمقا، وهي الجبهات الخمس التي نواجه فيها الخطر الذي يمسك بخناقنا ويحاول طرحنا في قاع مستنقع الاقتتال والتخلف والتبعية.

كان ذلك الصحيح المهجور قائما وزاهيا ومثمرا في كل الأوقات التي كانت قواتنا المسلحة تقاتل فيها عدوا!.. وقد وعيت ذلك منذ أول وميض ناري شهدته عيناي باتجاه شمال مدينة دسوق التي كنا نعيش فيها عام 1956، وكان وميضا واسع المساحة يختلط فيه وهج الاحمرار مع الضوء، وتصحبه رعود المقاومات الأرضية وفرقعات الدانات .. ووقتها جاء الشباب اليافعون من أهلنا وجيراننا من مختلف القرى للانضمام للحرس الوطني وإذا أمكن الانخراط في "الديش"، حيث تتحول الجيم إلى دال في لهجة أهل ذلك الزمان والمكان!.. ثم كانت هزيمة 1967 وحرب الاستنزاف وصولا إلى نصر أكتوبر 1973، وكان السد العالي فعلا مقاتلا بطريقة أو أخرى مقترنا بتأميم القناة ومعركة 1956.

عشنا الصحيح ممثلا في أدب وفكر المقاومة، قصة ورواية وشعرا ومقالات وندوات وأبحاثا وورش عمل وموسيقى وغناء ورقصا شعبيا، ودوريات متخصصة وجادة ابتداء من مجلات الثقافة والمسرح، والفكر المعاصر والطليعة والكاتب والسياسة الدولية، وليس انتهاء بملاحق الفكر والأدب لصحف المساء والأهرام وصفحات الرأي في الصحف كلها! وعشنا الصحيح مع دوريات العمل المستمرة المتواصلة ليلا ونهارا في تحويل مجرى النهر وإتمام السد، فيما جاهين والأبنودي وغيرهما يكتبان والطويل والموجي وبليغ وغيرهم يلحنون والست وعبد الحليم وعبد الوهاب وشادية وفايدة كامل ونجاح سلام وغيرهم يغنون.. ومحود رضا يصمم وفريدة فهمي تقود فرقة رضا والعزبي يرفع المواويل، وعلى نسق فرقة رضا ظهرت فرق أخرى في عمق الريف المصري في البحيرة وبورسعيد والإسكندرية وللتحطيب في الصعيد!.. وعشنا الصحيح عندما أدى ذلك المناخ الفكري والثقافي والأدبي والفني إلى رأي عام شعبي يرفض من خلاله عتاة الهجامين والنشالين وقطاع الطريق ومشايخ المنسر ارتكاب أية جريمة جنائية.. وبالطبع لم يكن آنذاك أي مجال لفاسد أو مفسد أن يمارس الفساد، وإن حدث ففي أضيق نطاق وفي أغلفة من الكتمان المطلق وفي حدود الملاليم!

إن التغني والكلام الاحتفالي بما تقوم به قواتنا المسلحة أمر طيب ولا مجال للانتقاص منه، ومن المؤكد أنه لا يكفي ولا يقود إلى أية نقلات كيفية أو نوعية في الوجدان والسلوك الجمعي المصري، بما يتكافأ مع النقلات النوعية التي تحدث للقوات المسلحة.

إن أهمية العمل على إحداث نقلات نوعية في المجتمع ليصبح مجتمعا مقاوما بالفكر والثقافة والإنتاج لا تكمن فقط في مساندة الفعل المقاتل الذي تقوم به قواتنا المسلحة، ولكن تكمن أيضا في إنهاء حالة اللا توازن في الدولة ككل، لأن استدعاء القوات المسلحة لتؤدي دورا رئيسيا في الزراعة والصناعة والخدمات والمشاريع القومية العملاقة- وعلى النحو الذي يزايد عليه البعض من عديمي المفهومية- مرتبط بالنقلات النوعية التي حققتها القوات المسلحة في مهمتها الأساسية التي يثبت الآن وبقوة أنها لم تتخل عنها ولم تغير درجة أولويتها وأهميتها، ولو كان لدينا منظومة رأسمالية تتوفر فيها مواصفات الالتزام والانضباط في الأداء والإنجاز على أعلى مستوى تقني ووفق المعايير العالمية وبغير نزوع إلى الإفساد للاستفادة غير المشروعة لكان الحال مختلفا.

إنني أذهب إلى أن العودة لمجتمع مقاوم ليس بمعنى عسكرة المجتمع وتحويل الكل إلى قوات نظامية أو شبه نظامية، وإنما بمعنى الانضباط في أداء كل المهام، هي السبيل المثلى للتوازن والحيلولة دون وقوف الدولة على ساق واحدة.
                              

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 فبراير 2018.

Thursday 8 February 2018

"كيرياليسون".. وصقل المعرفة




سهل في تدفق أفكاره وصياغاته حتى وهو ينسج على منوال بعض النصوص الدينية، ويطعم عباراته بحكم ومأثورات تراثية.. وممتنع حيث يستحيل أن تجد ثغرة لركاكة أو تهافت معنى أو لاصطناع معارك ومواقف.. وحيث يصعب اختزاله رغم إسهابه في الشرح والتأكيد والاقتباس المسند لمصادره ومراجعه!

ذلك هو نص حمدي رزق بوجه عام، وهو كتابه "كيرياليسون.. في محبة الأقباط" بوجه خاص! وهو صادر ككتاب ذهبي عن روزاليوسف 2018.

ونادرًا ما تجد كاتبًا يصدر كتابًا يحتوي بعضًا مما كتبه في مقالاته اليومية فتراه معنيًا بالبنيان المنهجي، الذي هو سمة الكتب البحثية العلمية، وتراه معنيًا بالتوثيق، أي نسبة المعلومة إلى مصدرها أو مرجعها حتى لا يختلط الرأي الذاتي بآراء آخرين، ولا يتداخل الاجتهاد مع النص.. سواء كان نصًا دينيًا من كتب مقدسة أو نصًا قانونيًا أو حتى نصًا يعود لجهة ما أو شخص بذاته! ومن هنا كان ثراء هوامش وملاحق كتاب حمدي رزق لا يقل عن ثراء المتن.

ورغم أن عنوان الكتاب ".. في محبة الأقباط"، ومقدمته يشيان بالانحياز مسبقًا لكل ما ومن هو مسيحي قبطي - لأن هناك مسلمًا قبطيًا – إلا أن متن الكتاب يقدم توضيحًا دقيقًا للمحبة التي هي في بعض مدلولاتها أن تنصر أخاك مظلومًا وظالمًا.. تنصره ظالمًا عندما توضح له ظلمه لغيره وربما لنفسه وترده إلى صحيح الإنسانية، ويقظة الضمير، وهذا ما فعله حمدي رزق في الجزء المعنون "فقه كراهية الأقباط"، والذي يبدأه بفقرة تقول: "نموذج فاضح لفقه كراهية الأقباط هي المعركة التي سميتها صحفيًا "الشيخ والقسيس"، وهي المعركة التي شغلت المجتمع المصري بأسره وبرهنت أن هناك فقهًا لكراهية ليس وقفًا على السلفيين والإخوان والتابعين، بل وضرب الفيروس أدمغة نفر من الأزهريين، الأمر الذي يستلزم توسيع زاوية وعدسة الرؤية، فوراء الأكمة ما وراءها والثعالب تكمن في الدغل والديابة لابدة في الذرة، والأمر جد خطير والبلاد تعوم على بحيرة من الطائفية ومياه الصرف الطائفي أكلت الأرض من تحت أقدامنا"! وفي هذا الفصل يقدم الكاتب رصدًا دقيقًا وتحليلًا وقراءة نقدية لما وقع فيه الدكتور سالم عبد الجليل من تنطع فقهي، عندما فسر إحدى آيات القرآن الكريم.

ولكن الكاتب يبرهن على دقة فهمه للمحبة، عندما يرصد ويحلل ما ذهب إليه الأب مكاري يونان كاهن الكنيسة المرقسية، وهو يرد على ما قاله سالم عبد الجليل، فجاء رده تخرصات باطلة عن الإسلام، وفي هذا كتب حمدي رزق: "لن أتطرق لمقولات الأب مكاري يونان.. لا حاجة لترديد مقولات بغيضة من قائلها تقتات عليها منابر عقورة تروم فتنة وقودها الناس والحجارة.. كفاني مسيحيون أجلاء مؤونة الرد على هرتلات الأب مكاري يونان بحق الإسلام.. نفروا إلى تخطئته ورفضوا تطاوله وتبرأوا من تقولاته.. طوبى للساعين إلى وأد الفتنة، لعن الله من أيقظها وعمل عليها، إنها من فعل شياطين الإنس الذين تخصصوا في إخراج الشياطين في ظلمة أنفسهم".

ثم إنه من الوارد أن يؤجل البعض أو يعزفوا عن قراءة كتاب، باعتبار أن بعض أو غالبية ما احتواه منشور لحمدي رزق من قبل في مقالاته، غير أن الأمر عندي وربما عند كل من يحرصون على وجود مرجع معتبر في هذا الجانب من جوانب حياتنا الاجتماعية والفكرية والثقافية وأيضًا السياسية وعند كل من يحتاجون إلى توثيق في متناول أيديهم لعديد من النصوص أمر مختلف، لأن الكتاب وضع الكتابة الصحفية في سياق مكتمل منهجيًا وتحليليًا.

الكتاب يضم بعد المقدمة، التي تحمل عنوان الله محبة ثلاثة عشر عنوانًا أو فصلًا ولكل فصل هوامش شديدة الأهمية، ثم ملاحق الكتاب التي يهمني أن أشير إليها ولو بالاقتصار إلى عناوينها:

1 – نص موعظة السيد المسيح على الجبل
2 – خطبة الوداع التي ألقاها الرسول صلى الله عليه وسلم في سنة 10 هجرية
3 – نص حوار البابا تواضروس مع حمدي رزق أكتوبر 2016
4 – ثبت بأسماء بباوات الإسكندرية ومدة جلوس كل منهم ابتداءً من مارمرقس الرسول 61 – 68 ميلادية إلى البابا تواضروس الثاني 2012 ميلادية إلى الآن، وهم 118 بطريركًا، كان لبعضهم ألقاب مميزة كلقب أبو الإصلاح للبابا كيرلس الرابع، ولقب رجل الصلاة للبابا كيرلس السادس، ولقب معلم المسكونة للبابا شنودة الثالث
5 – نص لائحة 1957: قرار رئيس الجمهورية لسنة 1957 باعتماد لائحة ترشيح وانتخاب بطريرك الأقباط الأرثوذكس
6 – نص العهدة العمرية
7 – نص الخط الهمايوني
8 – نص قانون رقم 80 لسنة 2016 بإصدار قانون بشأن تنظيم بناء وترميم الكنائس

وأعود لأوكد أن هوامش كل فصل فيها شروح وإسنادات بالغة الأهمية لكل من يريد صقل معرفته بأصول وفروع ومراحل علاقات المواطنة في مصر.

تحية للصديق الكاتب حمدي رزق.
                          

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 8 فبراير 2018.

Wednesday 7 February 2018

مصر- السعودية.. والتناسب الطردي




ما لا يمكن الاختلاف عليه هو الحقيقة الجغرافية والتاريخية التي تفصح عن أن لمصر محيطًا مباشرًا كله من الأشقاء، باستثناء وحيد هو الدولة الصهيونية الاستيطانية العنصرية!

وما لا يمكن تجاهله- أيًا كان الانتماء الفكري والسياسي الذي يحكم رؤية أي مهتم بوطنه- هو وجود ارتباط قوي ومباشر بين أوضاع مصر ومحيطها والعلاقات بينهما تأثيرًا وتأثرًا، وأن هناك تداخلًا شديدًا لا يمكن فصمه ولا تجزئته بين أمن كل دولة في هذه المنظومة، لدرجة وصلت في كثير من المراحل لأن تكون المنطقة كلها ضمن دولة واحدة، كانت هي دولة الخلافة الإسلامية في مراحلها المتعاقبة، وحتى بعدما تشظت اتجهت التكوينات التي ورثها- خاصة في مصر- إلى الحفاظ على مشروعيتين، الأولى هي أمن مصر الذي تؤكد كل المعطيات القديمة والوسيطة والحديثة أنه كما قال قدامى المصريين يمتد من القرن الإفريقي إلى منابع دجلة والفرات، ومن ثم كان لا بد من حكم الشام مع مصر، والمشروعية الثانية هي الحفاظ على الحرمين الشريفين! اللذين يضمان- إلى جانب القداسة الدينية- قداسة الأمن أيضًا! من هنا لا يمكن لعاقل يحب وطنه أن يغض الطرف عن التطورات التي تحدث في المملكة العربية السعودية، وعن الرؤى التي تحكم أصحاب القرار فيها، حيث إن الذي يعول عليه في السياسة هو المعلن من سياسات واستراتيجيات.

وقبل أن أستطرد، أود أن أثمن دور السفير أحمد قطان، سفير خادم الحرمين الشريفين في مصر، وهو دور مهم تمكن صاحبه بخبرته الدبلوماسية وتكوينه الإنساني والثقافي، أن يرأب صدوعًا حدثت في مسار العلاقات، وأن يفتح نوافذ الحوار الحر الواضح مع قطاعات من النخبة المصرية السياسية والثقافية والإعلامية وأيضًا الاقتصادية، ليس لتنفيس أبخرة مكتومة وإنما للتواصل العميق وتأصيل الأفكار والآراء، وتوضيح ما قد يغمض على التفسير في بعض الحالات، وفي هذا السياق يأتي اللقاء الذي رتبه السفير ليشرح فيه أبعاد الوضع في بلاده ولم أتمكن من حضوره، غير أنني قرأت الورقة التي لخصت تلك الأبعاد، ومن خلالها توقفت عند عدة نقاط تبدأ برؤية المملكة للعلاقة مع مصر، حيث يقول الملك سلمان في عام 2015: "إن وقوف المملكة العربية السعودية إلى جانب حكومة وشعب جمهورية مصر العربية الشقيقة، وموقف المملكة تجاه مصر واستقرارها وأمنها ثابت لا يتغير، وأن ما يربط البلدين الشقيقين نموذج يحتذى به في العلاقات الاستراتيجية والمصير المشترك، وأن علاقة المملكة ومصر أكبر من أي محاولة لتعكيرها، فهي مميزة وراسخة بين البلدين الشقيقين".. ثم يعود الملك سلمان ليؤكد الأمر في إبريل 2016 بقوله: "إن القناعة الراسخة لدى الشعبين السعودي والمصري بأن بلدينا شقيقان مترابطان هي المرتكز الأساسي لعلاقاتنا على المستويات كافة، وقد أسهم أبناء مصر الشقيقة منذ عقود طويلة في مشاركتنا بالعمل والتنمية والبناء ولا يزال بلدهم الثاني هو المملكة العربية السعودية"!

وفي سياق ما أعتقد أنه أساسي لفهم رؤية المملكة لمرتكزات تطورها الداخلي بعد هذا الوضوح في رؤيتها للعلاقة مع مصر، نتوقف عند قول الملك سلمان منذ ثلاث سنوات: "سعينا متواصل نحو التنمية الشاملة المتكاملة والمتوازنة في مناطق المملكة كافة.. والعدالة لجميع المواطنين.. وإتاحة المجال لهم لتحقيق تطلعاتهم وأمانيهم المشروعة في إطار نظم الدولة وإجراءاتها.. وإن كل مواطن في بلادنا وكل جزء من أجزاء وطننا الغالي هو محل اهتمامي ورعايتي، فلا فرق بين مواطن وآخر، ولا بين منطقة وأخرى، وأتطلع إلى إسهام الجميع في خدمة الوطن".

ومن ناحيتي كمراقب يحاول فهم الأوضاع والتطورات فإنني قد أربط بقوة بين الإجراءات التي اتخذت وتتخذ ضد الفساد هناك، ولم تفلت حتى من هم من الأمراء، وبين ذلك التوجه الذي أوضحه الملك في السطور السابقة، خاصة الجملة التالية: "...إتاحة المجال لهم لتحقيق تطلعاتهم وأمانيهم المشروعة في إطار نظم الدولة وإجراءاتها... ولا فرق بين مواطن وآخر"!

وبعد ذلك فإن من يحرص على حاضر مصر ومستقبلها ودورها في محيطها، وهو دور ثبت أن تكامله مع أدوار أخرى والتنسيق بينها وصولًا إلى ما هو أرقى في علاقات الدول، أجدى وأكثر نفعًا لكل الأطراف من تقاطع الأدوار وصدامها؛ عليه- أي من يحرص- أن يرصد بدقة ما يحدث في المملكة العربية السعودية من تطورات وإنجازات، وما تسعى للوصول إليه من أهداف على المستويات الأمنية والاقتصادية والخدمية من تعليم وصحة وغيرها، وهو ما تضمنته رؤية 2030 التي يتبناها وينفذها ولي العهد، ولست بصدد سرد الإنجازات التي تمت ولكنني أستأذن في الإشارة إلى أن حكومة المملكة تواصل العمل للتنمية والتطوير بتنويع مصادر الدخل والتقليل من الاعتماد على الإيرادات النفطية وخلق فرص عمل للشباب في مشروعات عملاقة مثل نيوم والفيصلية والبحر الأحمر، وهنا أعيد التذكير بأن مشروع نيوم الذي يمتد إلى مصر والأردن يهدف في الأساس لتطوير قطاعات اقتصادية رئيسية مستقبلية، وسيرتكز على تسعة قطاعات هي: مستقبل الطاقة والمياه والتنقل والتقنيات الحيوية والغذاء... العلوم التقنية والرقمية.. والتصنيع المتطور.. والإعلام والإنتاج الإعلامي.. والترفيه.. والمعيشة كركيزة أساسية لباقي القطاعات.

إنني أدعو كل مهتم بحاضر مصر ومستقبلها، ومن صميم ذلك الحاضر والمستقبل دورها وعلاقتها بمحيطها، أن يتابع ما يحدث في المملكة، لأنني أعتقد أن التناسب طردي متعاظم في علاقة البلدين.
                              

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 7 فبراير 2018.