Wednesday 1 June 2016

المأساة التاريخية

 
لوحة جامع أحمد بن طولون لباسكال خافيير كوستى

ليست مسؤولية الحكم والحكومة فقط وإنما مسؤولية كل من انتسب للعلم وللثقافة وللسياسة والعمل العام من أحزاب وتنظيمات وجمعيات مدنية بل ونقابات واتحادات وغيرها.. ذلك أن ما جرى في تلك القرية من قرى أحد مراكز محافظة المنيا للسيدة المواطنة المصرية المسيحية ولأسرتها ولمنازل المسيحيين ليس أول مرة ولن يكون آخر مرة، طالما أن الغالبية يريدون تعليقه في رقبة الحكم والحكومة.. أي الرئاسة والوزارة والمحافظة والأمن، ولا يريد أحد أن يمسك المشرط ويفتح الورم الصديدي السام ليعتصر ما فيه من قيح نتن ودم فاسد ثم يتم إقفال الجرح على نظافة ورعاية الأنسجة الاجتماعية المحيطة به حتى تستعصي على التهتك والإصابة ثانية!

وما سبق ليس تعميما للمسؤولية لكي يفلت المسؤولون من الحساب والعقاب، ولا هو دعوة للصبر على ما يحدث حتى يحلها الحلال وتثوب الأمة- عبر متعلميها ومثقفيها وسياسييها ونقاباتها واتحاداتها- إلى رشدها، وإنما هو- فوق حتمية الحساب والعقاب وتحديد المسؤولية بدقة- دعوة للعمل الدؤوب المتراكم، لكي تنتفي هذه السبة عن جبين الأمة، ولكي لا يعود إكليل العار فاضحا على رؤوسها.

إنه مسار طويل لتلك السبة التي سرعان ما يتجاوز حجمها استهداف المسيحيين وحدهم ولكنه سيمتد إلى مقومات الوجود الوطني بأكملها كي لا يترك قيمة واحدة محترمة تعطينا الحق في أن نستمر في علاك الحديث عن الحضارة والتحضر والتمدن والسماحة وعناق المآذن والأبراج وتمازج الصلبان والأهلة، وليلحق القتل والإجرام بغير المسيحيين أيضا، لأن هذا هو ما يفصح عنه سجل الأحداث التاريخية المتصلة بالتمييز الديني والطائفي والمذهبي!

تعالوا نقرأ الجبرتي عبر الخطط التوفيقية، حيث دقق علي باشا مبارك النصوص التاريخية لنرى ما جرى إبان الحملة الفرنسية.. ليس من الفرنسيين تجاه المصريين ولكن بين المصريين أنفسهم، ففي حوادث سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة هجرية: "أما بلاد الأرياف فإنها قامت على ساق يقتل بعضهم بعضا وكذلك العرب- سكان الصحراء المصرية- أغارت على الأطراف والنواحي، وصار قطر مصر من أوله إلى آخره في قتل ونهب وإخافة طريق وقيام شر وإغارة على الأموال وإفساد مزارع وغير ذلك مما لا يحصى، وطلب أمراء مصر التجار من الافرنج فحبسوا بعضهم بالقلعة وبعضهم بأماكن الأمراء، وصاروا يفتشون في محلات الافرنج على الأسلحة وغيرها، وكذا يفتشون بيوت النصارى والشوام والأروام والكنائس والأديرة، والعوام لا ترضى إلا أن يقتلوا النصارى واليهود وتمنعهم الحكام عنهم ولولا ذلك المنع لقتلتهم العامة في وقت الفتنة".

ثم يستمر الوصف للمشاهد الرهيبة التي تطورت لتتجاوز "النصارى واليهود والشوام والأروام" لتصل إلى بقية الناس الذين خرج أعيانهم وتجارهم ومستوروهم بنسائهم وأطفالهم وأموالهم وإذا "بمن دافع عن نفسه أو حريمه ربما قتلوه وعروا النساء وفضحوهن وفيهن الخوندات والأعيان".

نحن أمام تكرار مقيت منذ الحملة الفرنسية على الأقل، لأنني لم أشأ الغوص فيما هو أقدم من ذلك، للعدوان الذي قد يبدأ على المخالفين في العقيدة الدينية، فإذا به يتسع لكي لا يفلت منه أحد، لأن معدوم الضمير فاقد الوعي أسير الجهل والتعصب لا رادع له من وطنية أو قيم عليا أو دين أو غيره، والرادع الوحيد في حالة ذلك الكائن هو الضرب الشديد على يديه والسعي لاستئصاله من الجسد الاجتماعي، ويتزامن مع ذلك- وبأقصى جهد وقوة وسرعة- استئصال الظروف والعوامل التي تفرز مثل تلك الكائنات المنحطة.

إنني أسأل نفسي قبل أن أسأل غيري: لماذا استمر ويستمر هذا الانقسام الثقافي والاجتماعي في مصر بين شرائح واعية مدركة لمعاني الوطنية والمساواة والعدل وغيرها من قيم ينتظم عليها بناء المجتمعات المتحضرة؟!

ان الإجابة عن نفسي مثلا بأنني وكثيرا ممن يمارسون الكتابة والاهتمام بالشأن العام طالما كتبنا في أسباب هذا الانقسام واقترحنا طرقا ووسائل لعلاجه، وأذكر أنني كتبت سلسلة حول إصابة جهاز المناعة الوطني بالسرطان، وتحدثت عن الازدواج التعليمي الذي أدى- ومازال- إلى ازدواج ثقافي فيه تناقض حاد بين خطيه المزدوجين "التعليم الأزهري والتعليم المدني"، وقامت قيامة البعض وبدأوا في توجيه الاتهامات بالتواطؤ والتآمر على الأزهر ومن ثم على الدين!

وسؤالي يتجاوز ما كتبناه وخضنا به معارك التنوير، إلى البحث عن كيفية التغيير الفعلي للواقع الذي يظهر اهتراؤه كلما حدث حادث كاشف من هذا النوع الذي جرى أيام حملة بونابرت ثم في الوقت الراهن ضمن سياق مخزٍ عايشناه مشتعلا في الزاوية الحمراء وما بعدها، بل أذكر واقعة إقدام تلك الكائنات عديمة الإنسانية بإحراق منزل على سكانه في "أبو قرقاص" منذ سنوات، وكيف أن أهل المنزل أغلقوا الباب بالجنازير فلما حاصرتهم النيران ألقوا بالأطفال من أعلى سطح المنزل!

إنني أتساءل- للمرة التي لا أذكر عددها- السؤال نفسه الذي طرحته في إحدى الفضائيات وبمناسبة ذكرى رحيل البابا شنودة: لماذا توقفت الجهود الثقافية التي كنا نشارك فيها مع أسقفية الشباب وأسقفية الخدمات الاجتماعية في الكنيسة الأرثوذكسية، وكنا بصدد نشاط مشترك يشارك فيه الشباب المصري كله من مختلف الديانات والطوائف؟ وحتى الآن لم أجد إجابة!

لماذا لا يترجم اهتمام رئيس الجمهورية بالشباب لتكون هناك خطوط مماثلة لإنتاج وعي وطني حضاري وثقافي مثل ذلك الخط الذي ينتج "القادة" في البرنامج الذي نسمع عنه وأنه برعاية رئاسة الجمهورية!
دعونا لا نجادل في أننا- كمثقفين وصحفيين وإعلاميين- نعيش حالة عجز خطيرة تقعدنا عن إطفاء حقيقي للنيران التي تلتهم وطننا في أقدس مقوماته، وهي التماسك الاجتماعي والمواطنة والحياة المشتركة بين مواطنيه!

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
                                  
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 2 يونيو 2016

No comments:

Post a Comment