Tuesday 27 October 2015

صحافة- صحفيون.. ورأسمال- رأسماليون



السؤال هو: كيف يمكن وضع العلاقة بين الصحفيين والصحف المستقلة أو الخاصة أو التى يملكها رأسماليون ورجال أعمال- سمها كما شئت ودقق بين معانى الكلمات ودلالاتها كما تريد- فى سياق صحيح يُعلى من السعى لهدف مشترك هو تكوين رأى عام مستنير وفاعل فى كل جوانب حياة الوطن المصرى؟

أدرك أن السؤال فرع من أصل هو العلاقة بين الصحفيين عموما والصحف كافة، حكومية وقومية وحزبية وخاصة.. ثم جادة وهادفة أو سطحية وهازلة، لأنها قضية تُمسك بخناق الجميع حتى وإن لم يلتفتوا، لأن الخناق يضيق على أعناقهم لدرجة باتوا فيها لا يستطيعون التنفس، ويبحثون عن ثغرة هواء نقى فلا يجدون، وما سبق ليس إفراطا وتهويلا فى أهمية الصحافة والصحفيين، وليس مقدمة لتفريط أو تهوين من دور رأس المال والرأسماليين، ولكنه محاولة لتلمس جوانب الحالة القائمة وباتت حادة مزمنة، ومن ثم البحث عن آفاق حلحلتها ووضع آليات تساهم فى أن تبقى إدارة الموضوع، سواء سماه البعض صراعا أو أزمة أو مشكلة، إدارة سليمة!

لقد سبق أن كتبت فى هذه المساحة من «المصرى اليوم» ما اعتقدت أنه «كلام يُغضب الجماعة الصحفية»، وقدمت ما أعتقد أنه توصيف أراه صحيحا لأحوال تلك الجماعة، وكيف أنها أحوال متردية فى معظم جوانبها بما لا يسر عدوا ولا حبيبا.. واليوم أحاول الإشارة إلى ما أظنه «مربط الفرس» فى العلاقة بين الصحفيين، ممثلين فى نقابتهم، وبين أصحاب العمل الذين يتوزعون بين رأسماليين ورجال أعمال، حيث الرأسمالى فيما أرى- شخصاً كان أو فئة- يدرك تاريخ نشأة ومسارات تكوين الرأسمالية فى مسيرة المجتمع البشرى، وما كانت وستبقى تمثله فى حياة المجتمعات والأوطان، وفيما أرى أيضا فإن الرأسمالى- فرداً أو فئة- يعرف قدسية القانون ويحترم الواجبات مع عدم التنازل عن الحقوق، ويعلى من شأن الإرادة المجتمعية، ويحترم حقوق الآخرين، ولا يتردد فى الوفاء لمجتمعه بمتطلبات ضرورية للتكافل ورعاية الفئات المحتاجة للرعاية إلى آخر ما عايشته مجتمعات عريقة فى رأسماليتها.. بينما جاء مصطلح رجل الأعمال- شخصا كان أو فئة- فى موجة طرأت على حياة بعض المجتمعات، ومنها المجتمع المصرى، ولم يكن شرطاً للمرء أن يكون رأسماليا بحق ليكون من حاملى لافتة رجال أعمال، بل كان الغالب هو أن اللافتة كانت غطاء واقياً للنصابين والأرزقية والفاسدين بالوراثة، بل وللمجرمين الذين صدرت ضدهم أحكام جنائية تمس شرفهم الشخصى وذممهم المالية... إلى آخره!، وهذا أمر قد تكرر من قبل فى مجتمعنا المصرى أيام أن كان فيه «أعيان» للريف المصرى وللمدن أيضا، وكان معظمهم من كبار ملاك الأراضى الزراعية والثروة العقارية ومتوسطيها أيضا، بل كان بعضهم يعد «عين أعيان» المديرية الفلانية، وهو مستور وليس ميسورا، ولكن لمجرد أنه من سلالة اجتماعية تميزت بالنخوة والكرم والشجاعة وكفالة الغارمين.. وبعدها جاء اللقب المماثل لرجل الأعمال، وهو لقب «من ذوى الأطيان»، وبعضهم كان يكتبها وينطقها «منزوى»!!، وحيث الأطيان جمع طين!.

هنا، فى مقامنا هذا.. مقام صناعة الصحافة ومهمة تكوين رأى عام مستنير أتحدث عن رأسماليين وليس رجال أعمال، مثلما تحدثت من قبل وميزت بين الصحفى المسلح بأصول المهنة وبالمعرفة والعلم والثقافة والأخلاق وبين الذى وجد نفسه فجأة يسوّد صفحات بلا أدنى تأهيل!

وإذا حدث واتفقنا على أن الهدف المشترك والمبتغى من الرأسمالية المصرية ومن الصحفيين فرادى أو ضمن نقابتهم العتيدة هو تكوين رأى عام مستنير يكفل للمجتمع أن يتنفس هواء نقيا صحيا على كل الأصعدة، خاصة الفكرية والثقافية والسياسية، بما يحول دون مصادرة الصراع الاجتماعى لصالح طرف بعينه، فإن بقية الأمور تبقى قابلة للنقاش والحلحلة!

عندئذ نعود للسؤال الأصلى لنطرحه بصيغة أخرى: هل من المقبول أو من المتصور أن يستطيع جاهل وأمى ثقافيا وأخلاقيا أن يحمل رسالة تنوير أمته حتى وإن كانت صفته صحفيا؟!، ثم هل من المقبول أيضا أو من المتصور أن يستطيع جاهل أمى ثقافيا ومنعدم الأخلاق أن يحمل رسالة التنوير تلك حتى وإن كانت صفته رجل أعمال؟! أظن أن الإجابة هى لا.. بالثلث.

طيب كيف نمكن الرأسمالية أن تحتكم لقوانين حركتها التاريخية، حيث حتمية الموازنة بين النفقات والعائد وبما يحقق ربحا ليس شرطا أن يكون فادحا، وفى الوقت نفسه نكفل للصحفى أن يعمل وفق القواعد التى تصون حقوقه وتضمن حريته وتبتعد به عن أى قيد على فكره وممارسته لمهنته؟!

أظننا بحاجة إلى ورشة عمل جادة لها جدول أعمال محدد قد يتضمن بعض ما طرحته هذه السطور إذا كان يصلح، وأرشح «المصرى اليوم» أن تفسح مجالا لهذه الورشة ليشارك فيها رأس المال كتفاً بكتف مع الصحفيين، ولنا إطلالة أخرى على ضوء مدى الاستجابة لهذه الدعوة.

إننى مع من يذهبون إلى أن وطننا فى حاجة ماسة إلى صحافة حرة مسؤولة ملتزمة- وليس ملزمة- بالسعى لتحقيق ما يكفل للأمة تقدمها، وأن ذلك لن يتم إلا بوجود إمكانيات مالية وتقنية وتسويقية عالية الكفاءة، وبغير ذلك فسيبقى الأمر مجالا وساحة لمن يعبثون بكل شىء، ولا يدركون أن الكلمة كانت وستبقى هى البدء.



نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 27 أكتوبر 2015

Thursday 22 October 2015

أسئلة استنكارية لمن بيده الأمر





إذا صح ـــــ وأظنه صحيحا ــــ أن كل ظاهرة تحمل عوامل فنائها داخلها، فإن الفرق بين الظواهر رغم أن كلها فانٍ هو المدى الذى تبقى صامدة فيه ومقاومة لتلك العوامل، بل إن من الظواهر ما هو قادر على تحويل عوامل فنائه إلى عوامل قوة، إلى أن يستعصى الأمر ويتحتم الفناء، باستحالة البقاء.

ليس فى الأمر تفلسف يعيد إنتاج ما توصل إليه العقل الإنسانى من قبل، ولكنه تذكير بما هو حتمي، ودعوة للتساؤل حول لماذا يبدو أن الظاهرة السياسية المستجدة بعد يناير ويونيو قد شاخت قبل أوانها، وبدت عوامل فنائها قوية متسارعة، وهل يمكن السعى للإفلات من المصير المحتوم ــــ ولو بتأجيله ـــــ حتى يأتى وقد حصد الناس لأجيال متلاحقة ثمار ما دفعوا ثمنه عرقا ودما ومالا ومقدرات؟!

التساؤلات محتدمة فى صدور وعقول كثيرين أنا واحد منهم.. أى من أولئك الذين راهنوا على 30 يونيو، وعلى قيادة ونظام الرئيس السيسى، ويحق لنا أن نتساءل، وأن نسأل سؤال الاستفهام الاستنكاري: لماذا لم تستنهض همة الأمة بخطة منهجية طويلة المدى وليس بالقطعة؟ ولماذا لم تستدع القوى الحية فى الأمة لتؤدى دورها متفانية مخلصة لا ترجو جزاءً ولا شكوراً لأنها تبغى وجه الله والوطن وفقط؟ ولماذا يبدو أن هناك تعمداً لإبراز الوجوه الكالحة محترفة الكذب والزور والطبل والزمر، تلك التى أودت بنظام السادات ومبارك و»لبستهما» فى الحائط؟ ولماذا حفلة الزار الهستيرية التى شاركت وتشارك فيها صحف قومية وقنوات رسمية مع أخرى تابعة للصوص الذين لهم اسم دلع هو رجال أعمال لإحياء سياسات وقيم ونماذج نظام السادات ــــ مبارك، واستدعاء المرأة التى اخترعت كارثة «السيدة الأولى» وأرست تقاليد سحب الوزراء من ورائها ورسّخت تدخل حرم الرئيس فى القرارات السياسية والتوجهات التنفيذية، ولدرجة أن تلك المرأة التى تجاوزت الثمانين ولا تزال «تتنطط» من حفلة لحفلة ومن قناة لقناة، هى التى شاركت فى وضع الأحكام التى صدرت فى قضية 15 مايو 1971! وهى التى كرّست أنه لا امرأة فى مصر إلا تلك «الأولى»، ولدرجة أنها خبطت سيدة سيدات مصر والعرب أم كلثوم كتفاً غير مشروع، ساهم فى انزواء الست وموتها كمداً، بعد أن حل «الوفاء والأمل» محل مشروع أم كلثوم للخير، ومن هذا كثير مخزٍ يبدو أن البعض يتناساه كما يتناسون ضرب مؤسسات الدولة المصرية المدنية الحديثة بالعودة إلى تكريس تقاليد القرية وعلاقات العائلة ومكانة كبير العيلة، وبالسعى للادعاء بالتدين «دولة العلم والإيمان» و»أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة» إلى آخر المنظومة إياها التى لا يحتمل المجال الاستطراد فى الحديث فيها! ناهيك عن الفصول المأساوية للعلاقات مع العدو الصهيوني، ومنها الفصل الذى أدمى عيون المشير الجمسي!

نعم وبالفم الملآن هناك إحباط وأسئلة حائرة لا تجد إجابة حول استنهاض همة الأمة، واستدعاء جهد الأكفاء من المخلصين غير الطامعين ولو فى سماع «سلام عليكم»، ولا يتكالبون على لقاء ولا على وظيفة ولا على مكسب من أى نوع! وهذا كله يمثل بعضاً من أسباب ضعف التصويت فى الانتخابات البرلمانية، ويمثل بيئة صالحة مهيأة لتفريخ السوس الذى سينخر ـــــ وربما بدأ ـــــ فى الظاهرة التى نحن بصددها.

وربما تجد تساؤلاتنا وأسئلتنا الاستنكارية تساؤلات وأسئلة مضادة تبدأ بمن ذا الذى منع أو يمنع المخلصين الأكفاء المتجردين من أداء دورهم، ومن هذا الذى يمكن له وحده ــــ مهما كانت قدراته وعلت مكانته ــــ أن ينفرد باستنهاض همة الأمة، وهل المطلوب هو ترسيخ ميراث العداوة والبغضاء والانقطاع بين مراحل تاريخ مصر، وهل يمكن لأى من كان أن يمحو بأستيكة دور السادات ومبارك، وكلاهما حظى بتزكية الرئيس عبد الناصر ورعايته الأول ــــ أى السادات ــــ عضوا فى تنظيم الضباط الأحرار ومسئولاً ثم نائباً للرئيس، والثانى ترقيتين استثنائيتين فى سلاح الطيران، وتكليف مباشر برئاسة أركان السلاح؟! وأليست جيهان مواطنة مصرية لها جميع حقوق المواطنة ومن حقها أن تنشط كما تشاء؟!

وأقول إن أى جهد جماعى مصرى يراد له الفاعلية والاستمرار والانتشار يلزمه دوما خيط أو شعرة تصله بالدولة المصرية، أو بمعنى أدق برأس المؤسسات فى الدولة، لأننا علمنا ونعلم أن جمعيات العمل الأهلى التى اصطلح مؤخراً على تسميتها «المنظمات غير الحكومية» لا تؤتى إلا ثماراً محدودة، سواء فى انتشارها أو فى آثارها، بل هى دوماً محل اتهام أو محل انقسام أو محل حصار! ولكم تخيل المرء أن تصدر عن مؤسسة الرئاسة نداءات محددة جدا، ابتداءً من الفئة أو الجهة أو الجماعة الموجة إليها كل نداء، وانتهاءً بأبعاد المهمة الوطنية المطلوب إنجازها.. وعلى سبيل المثال لنا أن نتخيل نداءً من المؤسسة التى يمثل قمتها رجل يحظى بحب وشعبية جارفين، إلى شباب الأطباء لتشكيل فرق مماثلة «للأطباء الحفاة» أو «أطباء عابرين للحدود» ليشكلوا فرقاً طبية وقائية وعلاجية تنزل متطوعة إلى قلب الوطن وأطرافه وتبدأ عملها بإمكانات بسيطة ولكنها فاعلة، ويؤدون مهمتهم فى الوقاية والعلاج والمتابعة بلا مقابل! وكذلك.. نداء لكل من يقدر على أداء مهنة التدريس ومحو الأمية لتحقيق هدف مصر خالية من الأمية الهجائية بحلول شهر كذا من سنة كذا، وكذلك الأمر للزراعيين والبيطريين وغيرهم لإعداد قوافل الانتشار فى الريف والبوادى وتقديم الإرشادات والخدمات والتجهيزات اللازمة لتطوير البنية الزراعية والحيوانية وخلافه!

وتتحول المحروسة لخلية نحل.. ويكون «تمام» الجميع عند الرجل الكبير الذى كثيرا ما يؤكد أنه لا رئيس ولا زعيم ولا يحزنون وإنما واحد من الناس وضع نفسه فى خدمة الوطن ولا يرجو جزاء من أحد وليس لأحد عنده فاتورة مستحقة الدفع!... هذا عن استنهاض همة الأمة وتوظيف الكفاءات المخلصة فى آن واحد!

أما حكاية التاريخ وحقوق المواطنة، فهناك فرق بين اتصال حلقات تاريخ مصر والحيلولة دون تمزيقها أو تفكيكها، وبين حتمية الاستفادة من دروس التاريخ والحيلولة دون تكرار الأخطاء بنفس درجة الحيلولة دون طمس الأخطاء والتدليس لحساب المخطئين، وكم هى مأساة مضحكة رغم سوادها أن يشاهد الناس الذين لم تضعف ذاكرتهم بعض رموز عصر الخراب الانفتاحى وضياع هيبة الدولة والعبث بدور مؤسساتها الدستورية، والذين تحوم من حولهم شبهات التربح واستغلال النفوذ فى جنى المكاسب، وهم يعودون لصدارة المشهد، حتى إن كانت عودتهم راجعة إلى لزوجتهم وفرضهم أنفسهم، فلا يجد من بيده الأمر مخرجاً إلا القبول بظهورهم، ولو من باب الإنسانية والذوق الاجتماعي.

إن الأسئلة الاستنكارية ستبقى مطروحة، ولن يتوقف المخلصون الأكفاء عن رفع أصواتهم، وفق كل قواعد الاحترام.


نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 22 أكتوبر 2015
لينك المقال:

Tuesday 20 October 2015

«التنفيضة».. المقدسة


توقفت عن كتابة المقالات لأكثر من شهر، حيث استجبت لدعوة لأداء فريضة الحج، ودهمنى إحساس تحول إلى هاجس ومنه إلى شبه يقين أننى لن أعود أو سأصادف صعوبات لا أقوى على تحملها، وكتبت ذلك يوم 17 سبتمبر فى مقال عنونته «مقال لم يكتمل للمصرى اليوم»، وتركته على مكتبى ولم يرسله زملائى الذين يساعدوننى فى العمل وحسنا فعلوا!، وسافرت يوم 19 سبتمبر 2015 ومنذ عدة أيام كتبت عن «التنفيضة» التى أصبحت فيها كسجادة قديمة غطاها الغبار والتراب وانتشرت فيها البقع والعثة، فوضعت حيث يتمكن أصحابها من تنفيضها بالمضرب الخيزرانى إياه و«هاتك» يا «رزع» فى كل سنتيمتر فى السجادة ومن وجه لآخر فيها.. مرة ومرتين وثلاثا وأربعا بغير توقف، وكأن مفتشا حريص على جودة وإتقان العملية يراقب «التنفيض» وضمنت ما كتبت كل دقيقة من أدق مشاعرى وأنينى وصراخى وبوحى ودعائى وعتابى واستنجادى، فلما اكتملت السطور أزحتها جانبا، وقلت كفى ما كتبته ونشرته على الفيس بوك وبدا للبعض وكأنه فتوحات مكية جديدة!

كان جزء من مقدمة ما كتبته يتصل بزملاء وزميلات رحلة الحج، ومنهم من كنت لا أتصور لحظة واحدة أن ألتقيه مباشرة وأصافح وجهه صباحات ومساءات وطوال اليوم، وتنهمر دموعنا مكشوفة أمام بعضنا البعض وأمام آخرين.. وأكاد أكون قد كتبت «بورتريها» خاصا عن بعضهم، وهى فى ظنى مادة صحفية خصبة يرتاح لقراءتها الكثيرون.. ومع ذلك عزفت عن أن أنشر ما كتبت لسبب قد يبدو غريبا عند البعض.

إننى كثيرا ما أردد أبياتا من قصيدة البردة للإمام البوصيرى التى أنشأها لمدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها أبيات يقول فيها محذرا من خضوع الإنسان لهوى نفسه:

والنَّفسُ كَالطّفلِ إِنْ تُهمِلْه ُشَبَّ عَلَى حُبِّ الرّضَاع وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنفَطِــمِ
فاصْرِف هواهــا وحاذِر أَن تُوَلِّيَهُ إنَّ الهوى مـا تَـوَلَّى يُصْمِ أو يَصِمِ
وراعِهَـا وهْىَ فى الأعمال سـائِمَةٌ وإنْ هِىَ استَحْلَتِ المَرعى فلا تُسِـمِ
كَـم حسَّــنَتْ لَـذَّةً للمرءِ قاتِلَةً مِن حيثُ لم يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ فى الدَّسَـمِ
واخْشَ الدَّسَائِسَ مِن جوعٍ ومِن شِبَعٍ فَرُبَّ مخمَصَةٍ شَـــرٌّ مِنَ التُّـخَمِ
واستَفرِغِ الدمعَ مِن عينٍ قَـدِ امْتَلأتْ مِن المَحَـارِمِ والْزَمْ حِميَـةَ َالنَّـدَمِ
وخالِفِ النفسَ والشيطانَ واعصِهِـمَا وإنْ همـا مَحَّضَـاكَ النُّصحَ فاتَّهِـمِ
فلا تُطِعْ منهما خصمَا ولا حكَمَــا فأنت تعرفُ كيـدَ الخَصمِ والحَكَـمِ

وكثيرا أيضا ما أتذكر قصة قريبتى العزيزة على قلوبنا التى أنهكها الحمل والولادة حتى حملت وولدت رضيعا ذكرا أصرت على أن يكون آخر العنقود فظلت ترضعه – إذ كان الاستمرار فى الإرضاع مؤخرا للحمل عند بعض النساء – حتى تجاوز العامين وظهرت قواطع أسنانه، ثم انتقل من الحبو إلى الوقوف ثم المشى واكتمال الأسنان وتعلم الكلام حتى صار «بربندا» وصار صبيا يافعا يهجم على أمه وينشب أظافره فى لحمها وأصابعه فى شعرها صائحا بكل جسارة «هات البز يا بنت الكلب»! وكانت قريبتى تعانى الأمرين من مشهد ذلك الشحط الجاثى على ركبتيه وفمه قابض على صدرها، وتعانى كل المرارات من لوم الناس وزفارة لسان الصبى، وهى لا تريد أن تفصح بأنها لو أوقفت الرضاعة حملت من فورها.. لأننا كنا فى زمن غابر لم تظهر فيه الوسائل إياها!

وتسألنى حضرتك ما شأن أبيات البوصيرى وقصة قريبتك بما كتبته عن رحلة أو «تنفيضة» الحج، وأجيبك من فورى لأننى كثيرا ما عشت مع نفسى مراحل تعاركت فيها معها لأفطمها من إدمانات بعينها..

ضبطت نفسى متلبسة لفترة طويلة بإدمان شهوة التواصل مع شخصيات مهمة ثقافيا وفكريا أو بالمناصب الرفيعة.. وجاءت لحظات كنت لا أقاوم فيها القلق الشديد من أننى اتصلت بأحدهم ولم يرد أو رد باقتضاب أو لم يتصل هو منذ فترة أو لم يدعنى كالعادة لجلستنا الخاصة، أو ضمن مدعوين آخرين، ثم ضبطتها وهى تحاول الإيحاء للحضور أثناء المكالمة الهاتفية – وكانت التليفونات أيامها كلها أرضية – بأن يخرجوا أو يصمتوا لأن المتصل مهم!!، وبعدها أتلمس أية فرصة لإقحام اسم المتصل المهم وجزء من فحوى الحديث أثناء كلامى مع الآخرين فى أى موضوع!.. وعندما استفحل الأمر قلت «يا خبر أسود طيب وبعدين؟!»، وسعيت لأفطمها بقسوة وقد حدث... لدرجة أن بعض هؤلاء المهمين أصابه الاستياء أو التعجب من فجوة طرأت واستطالت بغير سبب! ومنذ فطمتها عن ذلك لم يعد يأسرنى ولا يغوينى اتصال أو انقطاع بالمهمين!

وضبطت نفسى متلبسة بإدمان الصوت والضوء.. ليس ذلك العرض المشهور عند الهرم وأبى الهول.. ولكن الصوت والضوء فى الندوات والمؤتمرات الجماهيرية الواسعة داخل مصر وخارجها، بعد أن شاءت ظروفى أن أحوز بعض المهارات فى الحوارات الفكرية والسياسية، وبعض الميزات فى الخطابة العامة حيث لمعان الفلاشات وهدير الميكروفونات.. ثم حزم الضوء فى استديوهات التليفزيون والفضائيات!

ضبطتها وقد احترفت الاستمتاع لدرجة الانتشاء بالحديث فى ندوة، أو بالخطابة فى مؤتمر، والانتقال من نبرة صوت إلى أخرى صعودا وهبوطا، ومعرفة المفاصل التى يتعين الوقوف عندها لتهب عواصف التصفيق والهتاف، أو تتوالى الاتصالات الهاتفية بعد البرنامج!

وعندما قررت فطامها عن إدمان الصوت والضوء هاجت وماجت وكأنها ابن قريبتى يصرخ «هات البز».

وهذا ما حدث عند رحلة التنفيضة إياها إذ وجدتها وكأنها فيروس يتحور لمقاومة المضاد الحيوى، تحفزنى لنشر تجربتى شديدة الخصوصية فى أقدس وأطهر أماكن الجغرافيا الإسلامية، ومع صاحب الرسالة، ومع من أرسل الرسل جل وعلا وله المثل الأعلى!

كيف أنشر تفاصيل ما أجملته على الفيس بوك عندما كتبت «أحرمت.. فتعريت، وتعريت.. فأفصحت، وأفصحت فانفضحت» إلى آخر ما كتبته وكان منه أيضا: «حبسنى فى الآه.. فصحت يا الله» لأننى سمعتهم يقولون إن الاسم هو: آه.. وأن الألف واللام للتعريف.

وفى غيابى المكانى عن المحروسة، وغيابى الكتابى عن الصحف، جرت فى الترعة المياه التى بعضها نقى عذب وبعضها ملوث حامض وربما قلوى.. ولن تجوز الكتابة بأثر رجعى وقد تحين فرصة للإشارة من هنا أو من هناك لما أظن أننى لابد ألا أفلته! كانت تنفيضة شديدة بكل المعايير، وأتمنى أن يأتى الإذن بنشر خصوصياتها.


نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 20 أكتوبر 2015